إعراب القرآن - ج ٤

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٤

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٢٧)

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) في معناه ثلاثة أقوال : منها أنه إنما قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم أعطوا كتبهم بأيمانهم ، ومنها أنه يؤخذ بهم يوم القيامة ذات اليمين وذلك أمارة من نجا ، والقول الثالث أنّهم الذين أقسم الله جلّ وعزّ أن يدخلهم الجنة. (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول ، وقول قتادة : إن المعنى : أيّ شيء هو وما أعدّ لهم من الخيرات.

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) (٢٩)

«مخضود» أصحّ ما قيل فيه أنه خضد شوكه ، وقيل : هو مخلوق كذا ، والعرب تعرف الطّلح أنه الشجر كثير الشوك. قال أبو إسحاق يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل عنه الشوك. وأهل التفسير يقولون : إن الطلح الموز. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : يجوز أن يكون هذا مما لم ينقله أصحاب الغريب وأسماء النبت كثيرة حتّى إن أهل اللغة يقولون : ما يعاب على من صحّف في أسماء النبت لكثرتها.

(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ) (٣١)

أي لا يتعب في استقائه.

(وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) (٣٣)

(وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ) نعت. وجاز أن يفرق بين النعت والمنعوت بقولك لا لكثرة تصرّفها وأنها تقع زائدة. قال قتادة : في معنى (وَلا مَمْنُوعَةٍ) لا يمنع منها شوك ولا بعد.

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) (٣٤)

أي عالية ومنه بناء رفيع.

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) (٣٥)

قال مجاهد : خلقن من زعفران. قال أبو إسحاق : إنشاء من غير ولادة.

(فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) (٣٦)

مفعول ثان. وقال أبو عبيدة : في الضمير الذي في «أنشأناهنّ» أنّه يعود على «وحور عين» ، وقال الأخفش سعيد : هو ضمير لم يجر له ذكر إلّا أنه قد عرف معناه.

(عُرُباً أَتْراباً) (٣٧)

٢٢١

(عُرُباً) (١) جمع عروب ، ولغة تميم ونجد عربا يحذفون الضمة لثقلها. (أَتْراباً) جمع ترب.

(لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٤٠)

المعنى : إنّا أنشأناهنّ لأصحاب اليمين ، وفي الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر رحمة الله عليهما أنّهما قالا : أصحاب اليمين أطفال المؤمنين. وقدّره الفرّاء (٢) بمعنى لأصحاب اليمين ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين ، وقدّره غيره : المعنى هم ثلّة من الأولين أي جماعة ممن تقدّم قبل مبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجماعة من أتباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال صاحب هذا القول : إنما قيل في الأول ثلّة من الأولين وقليل من الآخرين ، وفي الثاني ثلّة من الأولين وثلّة من الآخرين ؛ لأن الأول للسابقين إلى اتباع الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وسلم والسابقون إلى اتّباعهم قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر من السابقين إلى اتباع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. يدلّك على صحة هذا أن قوم يونس صلى‌الله‌عليه‌وسلم آمنوا ، وهم مائة ألف أو يزيدون ، والسحرة اتّبعوا موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يروى أكثر من هؤلاء فلهذا قيل : وقليل من الآخرين ، والثلة الثانية لأصحاب اليمين وليست للسابقين ، وأصحاب اليمين قد يدخل فيهم المسلمون إلى يوم القيامة هذا على هذا القول ، وقد ذكرنا غيره. والله جلّ وعزّ أعلم.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) (٤١)

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ) أي الّذين أعطوا كتبهم في شمالهم ، وقيل : الذين أخذ بهم ذات الشمال. قال قتادة (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي ماذا لهم وما أعدّ لهم.

(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ) (٤٢)

أي في حسر النار وما يلحق من لهبها ، وحكى ابن السكيت في جمع سموم سمام. وقال أبو جعفر : فهذا على حذف الزائد وهو الواو «وحميم» وهو ما يعذّبون به من الماء الحار يجرّعونه ويصبّ على رؤوسهم كما قال جلّ وعزّ : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤].

(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) (٤٣)

ينصرف في المعرفة والنكرة لأنه ليس في الأفعال يفعول.

(لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (٤٤)

(لا بارِدٍ) أي لا ظلّ له يستر. (وَلا كَرِيمٍ) لأنه مؤلم وخفضت. (لا بارِدٍ) على

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٨.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٢٦.

٢٢٢

النعت ولم تفرق «لا» بين النعت والمنعوت لتصرّفها (وَلا كَرِيمٍ) عطف عليه ، وأجاز النحويون الرفع على إضمار مبتدأ كما قال : [الكامل]

٤٥٧ ـ وتريك وجها كالصّحيفة لا

ظمآن مختلج ولا جهم(١)

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) (٤٥)

أي في الدنيا ، روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس يقول : منعّمين.

(وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) (٤٦)

(وَكانُوا يُصِرُّونَ) قال ابن زيد : لا يتوبون ولا يستغفرون. والإصرار في اللغة الإقامة على الشيء وترك الإقلاع عنه. (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) قال الفرّاء : يقول الشرك هو الحنث العظيم.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) (٤٧)

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) تعجّبوا من هذا فلذلك جاء بالاستفهام. قال أبو جعفر : من قال إذا متنا جاء بالهمزة الثانية بين بين فهي متحرّكة كما كانت قبل التخفيف. وهكذا قال محمد بن يزيد ، وقال أحمد بن يحيى ثعلب : همزة بين بين لا متحرّكة ولا ساكنة. قال أبو جعفر : فأما كتابها فبالألف لا غير ؛ لأنها مبتدأة ثم دخلت عليها ألف الاستفهام. فإذا في موضع نصب على الظرف ، ولا يجوز أن يعمل فيه لمبعوثون ؛ لأنه خبر «إنّ» فلا يعمل فيما قبله والعامل فيه متنا. ويقال : متنا على لغة من قال : مات يموت وهي فصيحة ومن قال : متنا فهو على لغة من قال : مات يمات مثل خاف يخاف ، وقد قيل : هو على فعل يفعل جاء شاذا.

(أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (٤٨)

معطوف على الموضع ، ويجوز أن يكون معطوفا على المضمر المرفوع.

(قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٥٠)

حكى سيبويه (٢) عن العرب سماعا : ادخلوا الأول فالأول. وزعم أنه منصوب على الحال وفيه الألف واللام. وقال ابن كيسان : لا نعلم شيئا يصحّ في كلام

__________________

(١) الشاهد للمخبّل السعدي في ديوانه ٣١٣ ، ولسان العرب (ظمأ) و (خلج) ، وتاج العروس (ظمأ) و (خلج) ، وأساس البلاغة (جهم) ، والمفضليات ٢١٣ ، وبلا نسبة في المخصّص ١ / ٩١.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٤٦٦.

٢٢٣

العرب منصوبا على الحال وفيه الألف واللام إلّا هذا والعلة فيه أنه وقع فرقا بين معنيين لأنك إذا قلت : دخلوا أولا أولا فمعناه دخلوا متفرقين فإذا قلت : دخلوا الأول فالأول فمعناه أعرفهم الأول فالأول ، وقال محمد بن يزيد : التعريف إنما وقع بعد فلذلك جيء بالألف واللام زائدتين كسائر الزوائد. وحكى سيبويه عن عيسى بن عمر : أدخلوا الأول فالأول يحمله على المعنى وقد خطأه سيبويه لأنه لا يجوز : ادخلوا الأول فالأول فالأول أي إنما يقال باللام ، واحتج غيره لعيسى بن عمر : لأنه محمول على المعنى ، كما روي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ فبذلك فلتفرحوا [يونس : ٥٨] ، وكان يجب أن ينطق في الأول بفعل لأنه بمنزلة الأفضل ، ولكن يردّ ذلك لأن فاءه وعينه من موضع واحد ، ولا يوجد في كلام العرب فعل هكذا ، وهو في الأسماء قليل. قالوا : كوكب لمعظم الشيء ، وقالوا للهو واللعب : ددا وددن ودد ، وقالوا للسيف الكليل ددان لا يعرف في الدال غير هذه. وفي الحديث عن عمر رضي الله عنه «حتّى يصير النّاس ببّانا واحدا» (١) أي شيئا واحدا «وبيّة» لقب. لا يعرف غير هذين في كلام العرب في الباء. أما قولهم في الطائر ببّغاء ولسبع ببر فأعجميان ولا يكاد يعرف ذلك في غير هذه الحروف إلا يسيرا إن جاء فقد قالوا لضرب من النبت آء ولا يعرف له نظير فلهذا لم يستعمل في أول فعل. وحكى سيبويه (٢) أنّ «أول» يجوز أن يصرف على أنه اسم غير نعت كما يقال : ما ترك أولا ولا اخرا. وحكي ترك الصرف على أنه نعت.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) (٥١)

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) أي الجائرون عن طريق الهدى. (الْمُكَذِّبُونَ) بالوعيد والبعث.

(لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) (٥٣)

(لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا) على تأنيث الجماعة ، ولو كان منه على تذكير الجميع لجاز. (الْبُطُونَ) جمع بطن وهو مذكر. فأما قول الشاعر : [الطويل]

٤٥٨ ـ فإنّ كلابا هذه عشر أبطن

وأنت بريء من قبائلها العشر(٣)

فمؤنث لتأنيث القبيلة محمول على المعنى ، ولو ذكر على اللفظ لجاز.

__________________

(١) انظر اللسان (بب).

(٢) انظر الكتاب ٣ / ٢١٧.

(٣) الشاهد لرجل من بني كلاب في الكتاب ٤ / ٤٣ ، وللنواح الكلابي في الدرر ٦ / ١٩٦ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٨٤ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢ / ١٠٥ ، وأمالي الزجاجي ١١٨ ، وخزانة الأدب ٧ / ٣٩٥ ، والخصائص ٢ / ٤١٧ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٢٠ ، وشرح عمدة الحافظ ٥٢٠ ، ولسان العرب (كلب) و (بطن) ، والمقتضب ٢ / ١٤٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٩.

٢٢٤

(فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ) (٥٤)

(عَلَيْهِ) على الشجر على تذكير الجميع ، ويجوز أن يكون على الجمع الأكل.

(فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (٥٥)

هذه قراءة أكثر القراء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) (١) بفتح الشين ، وزعم أبو عبيد أنها لغة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلام هائل. فقال بعض العلماء : قوله لغة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلام هائل لا ينبغي لأحد أن يقوله إلّا بتيقّن والحديث الذي رواه أصحاب الحديث والناقلون له عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون فيه : «إنّها أيام أكل وشرب» بضم الشين سواه ، أو من قال منهم. ونظير هذا قوله لغة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحرب خدعة» (٢) وقد سمع خدعة وخدعة. والقول في هذا على قول الخليل وسيبويه أن شربا بفتح الشين مصدر وشربا بضمها اسم للمصدر يستعمل هاهنا أكثر ، ويستعمل شرب في جمع شارب ، كما قال : [البسيط]

٤٥٩ ـ فقلت للشّرب في درنا وقد ثملوا

شيموا وكيف يشيم الشّارب الثّمل(٣)

«والهيم» جمع هيماء وأهيم وهو على فعل كسرت الهاء لأنها لو ضمّت انقلبت الياء واوا. وقد أجاز الفرّاء (٤) أن يكون الهيم جمع هائم.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) (٥٦)

(هذا نُزُلُهُمْ) أي الذي ينزلهم الله إيّاه يوم القيامة وهو يوم الدّين الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) (٥٧)

أي نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئا فأوجدناكم بشرا فلولا تصدّقون من فعل ذلك أنه يحييكم ويبعثكم.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) (٥٨)

(أَفَرَأَيْتُمْ) أي أيّها المكذبون بالبعث والمنكرون لقدرة الله جلّ وعزّ على إحيائهم.

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٩.

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه (١٣٦١) ، وأبو داود في سننه (٢٦٣٦) ، وأحمد في مسنده ١ / ٩٠ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٤٠ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ٣٢٠.

(٣) مرّ الشاهد رقم (٣١٤).

(٤) انظر معاني الفراء ٣ / ١٢٨.

٢٢٥

(ما تُمْنُونَ) في أرحام النساء. قال الفرّاء : يقال أمنى ومنى وأمنى أكثر.

(أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٥٩)

(أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أي أنتم تخلقون ذلك المنيّ حتّى تصير فيه الروح (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ).

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٦٠)

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) (١) أي فمنكم قريب الأجل وبعيده كل ذلك بقدر. (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي في آجالكم وما يفتات علينا فيها بل هي على ما قدّرنا.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (٦١)

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أحسن ما قيل في معناه نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم أي نجيء بغيركم من جنسكم (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أحسن ما قيل في معناه وننشئكم في غير هذه الصّور فينشئ الله جلّ وعزّ المؤمنين يوم القيامة في أحسن الصور وإن كانوا في الدنيا قبحاء وينشئ الكافرين والفاسقين في أقبح الصور وإن كانوا في الدنيا نبلاء.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) (٦٢)

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) (٢) أي علمتم أنّا أنشأناكم ولم تكونوا فهلا تذّكّرون فتعلمون أن الذي فعل ذلك لقادر على إحيائكم ، والأصل تتذكّرون فأدغمت التاء في الذال.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) (٦٣)

تكون (ما) مصدرا أي حرثكم ، ويجوز أن يكون بمعنى الذي أي أفرأيتم الحرث الذي تحرثون.

(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٦٤)

معنى تزرعونه تجعلون زرعا ، ولهذا جاء الحديث عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : «لا تقل زرعت ولكن قل حرثت» ثمّ تلا أبو هريرة (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ).

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٨ (ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها).

(٢) انظر تيسير الداني ١٤٠.

٢٢٦

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) (٦٦)

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي متهشّما لا ينتفع به. (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) اختلف العلماء في معناه ، فقال الحسن وقتادة : تفكّهون أي تندّمون على ما سلف منكم من المعاصي التي عوقبتم من أجلها بهذا وقال عكرمة : تفكّهون تلاومون أي على ما فاتكم من طاعة الله جلّ وعزّ ، وقيل : تفكّهون تنعمون فيكون على التقدير على هذا : أرأيتم ما تحرثون فظلتم به تفكّهون. قال أبو جعفر : وأولى الأقوال ما قاله مجاهد. قال : تفكّهون تعجّبون أي يعجب بعضكم بعضا مما نزل به وأصله من تفكّه القوم بالحديث إذا عجب بعضهم بعضا منه ، ويروى أنها قراءة عبد الله (فَظَلْتُمْ) (١) بكسر الظاء. والأصل ظللتم كما قال : [الطويل]

٤٦٠ ـ ظللت بها أبكي وأبكي إلى الغد(٢)

فمن قال : ظلتم حذف اللام المكسورة تخفيفا ومن قال : ظلتم ألقى حركة اللام على الظاء بعد حذفها والأصل تتفكّهون ، والمعنى تقولون (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) قال عكرمة : إنّا لمولع بنا ، وقال قتادة : لمعذبون ، وقيل : قد غرمنا في زرعنا ، وقول قتادة حسن بيّن ؛ لأنه معروف في كلام العرب ، إنه يقال للعذاب والهلاك : غرام. قال الأعشى : [الخفيف]

٤٦١ ـ إن يعاقب يكن غراما وإن يعط

جزيلا فإنّه لا يبالي(٣)

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٦٧)

أي ليس نحن مغرمين لكنا قد حرمنا وحورفنا.

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) (٦٨)

(الَّذِي) في موضع نصب و (تَشْرَبُونَ) صلته والتقدير : تشربونه حذفت الهاء لطول الاسم وحسن ذلك لأنه رأس آية.

(أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) (٦٩)

(أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) الأصل : أأنتم خفّفت الهمزة الثانية فجيء بها بين بين. والدليل على أنها متحركة وهي بين بين أن النون بعدها ساكنة والاختيار عند الخليل

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢١١.

(٢) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٥ ، وشرح القصائد السبع الطوال لابن الأنباري ١٣٢ ، وصدره : «لخولة أطلال برقة ثهمد».

(٣) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ٩.

٢٢٧

وسيبويه (١) أن يؤتى بها بين بين لثقل اجتماع الهمزتين. (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) مبتدأ وخبره.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) (٧٠)

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) قال الفرّاء : الأجاج الملح الشديد المرارة. (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي فهلّا تشكرون الذي لم نجعله ملحا فلا تنتفعون به في مشرب ولا زرع.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) (٧١)

قال بعض العلماء : أي ترونها بأبصاركم. قال أبو جعفر : وهذا غلط ولو كان كما قال لكان ترون إنما هو من أوريت الزند أوريه إذا قدحته.

(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) (٧٢)

(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) أي اخترعتموها وأحدثتموها. (أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) وإن شئت جئت بهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو ، ولهذا قال محمد بن يزيد : لا يجوز أن تكتب إلّا بالواو أي بواوين ، وكذا «يستهزئون» ، ومن كتبها بالياء فقد أخطأ عنده ، لأن الضمة أقوى الحركات فإذا كانت الهمزة مضمومة متوسّطة لم يكن قبلها حكم ، ومن أبدل من الهمزة قال المنشوون والمستهزوون ، قال أبو جعفر : وهذه لغة رديئة شاذّة لا توجد إلّا في يسير من الشعر ، وسمعت علي بن سليمان يحكي أن الصحيح من قول سيبويه أنه لا يجيز إبدال الهمزة يعني في غير الشعر ، قال : لأن أبا زيد قال له : من العرب من يقول قرا بغير همزة فقال له سيبويه : فكيف يقولون في المستقبل فقال : يقرا فقال : هذا إذن خطأ ؛ لأنه كان يجب أن يقولوا : يقري حتّى يكون مثل رمى يرمي. قال أبو الحسن : فهذا من سيبويه يدلّ على أنه لا يجيزه.

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (٧٣)

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) مفعولان أي ذات تذكرة. (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : المقوون المسافرون ، وقال ابن زيد : المقوي الجائع. قال أبو جعفر : أصل هذا من أقوت الدّار أي خلت ، كما قال عنترة : [الكامل]

٤٦٢ ـ حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم(٢)

ويقال : أقوى إذا نزل بالقيّ أي الأرض الخالية ، وأقوى إذا قوي أصحابه أي خلوا من الضعف.

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٣١.

(٢) الشاهد لعنترة في ديوانه ١٨٩ ، ولسان العرب (شرع) ، وتهذيب اللغة ١ / ٤٢٤ ، وتاج العروس (شرع) ، والمقاصد النحوية ٣ / ١٨٨.

٢٢٨

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤)

أي بذكره وأسمائه الحسنى.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨٠)

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (١) قول ابن عباس أنه نزول القرآن ، واستدلّ الفرّاء (٢) على صحة ذلك لأن بعده (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (٧٦) وقول الحسن أي بمساقط النجوم ، وزعم محمد بن جرير أن هذا القول أولى بالصواب ؛ لأنه المتعارف من النجوم أنها هي الطالعة (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (٧٨) أي مصون. (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٧٩) من نعت الكتاب. (تَنْزِيلٌ) من نعت القرآن أي ذو تنزيل أي منزّل (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) (٨١)

أي تلينون الكلام لمن كفر بهذا الكتاب المكنون.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢)

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأ وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون (٣) وعن ابن عباس وتجعلون شكركم أنكم تكذّبون. قال أبو جعفر : وهاتان القراءتان على التفسير ، ولا يتأوّل على أحد من الصحابة أنه قرأ بخلاف ما في المصحف المجمع عليه ، وكذا التفسير. والمعنى على قراءة الجماعة وتجعلون شكر رزقكم ثمّ حذف مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، وقد فسر ابن عباس هذا التكذيب كيف كان منهم قال : يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ، وقد سمّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا كفرا ، قال أبو إسحاق : ونظيره قول المنجّم إذا طلع نجم كذا ثمّ سافر إنسان كان كذا فهذا التكذيب بإنذار الله جلّ وعزّ.

(فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) (٨٤)

مخاطبة لمن حضر ميتا : فالتقدير : فلا ترجعونها إن كنتم صادقين ، يقال : رجع

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١٦٨ (قرأ حمزة والكسائي «بموقع» بإسكان الواو من غير ألف والباقون بفتح الواو وألف بعدها).

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٢٩.

(٣) انظر المحتسب ٢ / ٣١٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢١٤.

٢٢٩

ورجعته فعلى هذا قال (تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٨٧) في أنكم لستم مملوكين مدبّرين. قال أبو جعفر : هكذا حكى الفرّاء (١) في معنى (مَدِينِينَ) قال : مملوكين ، وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (غَيْرَ مَدِينِينَ) أي غير محاسبين ، وقال الحسن : غير مبعوثين ، وقيل : غير مجازين من قوله عزوجل : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] فأما جواب لولا الثانية ففيه قولان : قال الفرّاء (٢) : أجيبتا جميعا بجواب واحد ، وقيل : حذف من أحدهما ودلّ عليه الآخر.

(فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) (٨٩)

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (٣) أي فأما إن كان المتوفّى من المقرّبين إلى رحمة الله جلّ وعزّ فله روح وريحان. قال أبو جعفر : وهذا الموضع مشكل من الإعراب لأن «أما» تحتاج إلى جواب ويسأل لم صار لا يلي «أما» إلّا الاسم وهي تشبه حروف المجازاة؟ وإنما يلي حروف المجازاة الفعل ، وهذا أشكل ما فيها. فأما جواب «أما» و «إن» ففيه اختلاف بين النحويين فقول الأخفش والفراء : أنهما أجيبا بجواب واحد وهو الفاء وما بعدها ، وأما قول سيبويه فإنّ «إن» لا جواب لها هاهنا ، لأنّ بعدها فعلا ماضيا كما تقول : أنا أكرمتك إن جئتني ، وقول محمد بن يزيد : إنّ جواب «إن» محذوف لأن بعدها ما يدلّ عليه. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يسأل عن معنى «أما» فقال : هي للخروج من شيء إلى شيء أي دع ما كنا فيه وخذ في شيء أخر. فأما القول في العلّة لم لا يليها إلا الاسم : فذكر فيه أبو الحسن بن كيسان أن معنى «أما» مهما يكن من شيء فجعلت أما مؤدية عن الفعل ، ولا يلي فعل فعلا فوجب أن يليها الاسم. وتقديره أن يكون بعد جوابها فإذا أردت أن إعراب الاسم الذي يليها فاجعل موضعها «مهما» وقدّر الاسم بعد الفاء تقول : أما زيدا فضربت معناه مهما يكن من شيء فضربت زيدا. وروى بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (فَرَوْحٌ) بضم الراء ، وهكذا قرأ الحسن البصري. قال أبو جعفر : وهذا الحديث إسناده صالح وبعضهم يقول فيه : عن بديل عن أبي الجوزاء عن عائشة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى الضمّ حياة دائمة. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) قال : مستراح ، وقال سعيد بن جبير : الرّوح الفرح ، وروى هشيم عن جويبر عن الضحّاك : فروح قال : استراحة ، وروى غيره عن الضحّاك فروح قال : مغفرة ورحمة. قال : والروح عند أهل اللغة الفرح ، كما قال سعيد بن جبير والمغفرة والرحمة من الفرح. فأما وريحان ففي معناه ثلاثة أقوال : منها أنه الرزق ، ومنها أنه الراحة ، ومنها أنه الريحان الذي يشمّ. هذا قول الحسن وقتادة وأبي العالية وأبي الجوزاء ، وهو يروى عن عبد الله بن عمر قال : إذا قرب خروج روح المؤمن جاءه الملك بريحان فشمّه فتخرج روحه. قال أبو إسحاق:

__________________

(١) و (٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٣١.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٢١٥.

٢٣٠

الأصل في ريحان ريحان والياء الأولى منقلبة من واو. وأصله روحان ، أدغمت الواو في الياء ثم خفّفت ، كما يقال : ميت إلّا أنه لا يؤتى به على الأصل إلا على بعد ؛ لأن فيه ألفا ونونا زائدتين. (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي وله مع ذلك جنّة نعيم.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩٠)

أي ممن أخذ به ذات اليمين إلى الجنة.

(فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩١)

فيه أقوال : قال قتادة (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) سلموا من عذاب الله جلّ وعزّ وسلّمت عليهم الملائكة وقيل (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) (٩١) أي لك منهم سلام أي يسلّمون عليك. وهذا قول نظري لأن المخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يخرج إلى غيره إلّا بدليل قاطع ، وقيل (فَسَلامٌ لَكَ) فمسلّم لك أنك من أصحاب اليمين ، وحذفت «أنّ» والمعنى لأنك من أصحاب اليمين. وحذف «أنّ» خطأ في العربية لأن ما بعدها داخل في صلتها وإن كان قائل هذا القول الفرّاء (١) وقد ذهب إليه محمد بن جرير.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) (٩٢)

أي الجائرين عن الطريق.

(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) (٩٣)

(فَنُزُلٌ) أي عذاب (مِنْ حَمِيمٍ) وهو الماء الحار.

(وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) (٩٤)

أي إحراقه.

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٩٥)

الكوفيون (٢) يجيزون إضافة الشيء إلى نفسه ويجعلون هذا منه ، وذلك عند البصريين خطأ لأنه يبين الشيء بغيره ، والمضاف إليه يبيّن به. قال مجاهد : حقّ اليقين حقّ الخبر اليقين ، وقال أبو إسحاق : المعنى أن هذا الذي قصصناه في هذه السورة يقين حقّ اليقين ، كما تقول : فلان عالم حقّ العالم ، إذا بالغت في التوكيد.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦)

أي فنزّه الله جلّ وعزّ عن كفرهم بأسمائه الحسنى.

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٣١.

(٢) انظر الإنصاف المسألة رقم (١١٤١).

٢٣١

(٥٧)

شرح إعراب سورة الحديد

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١)

(سَبَّحَ) عظّم ورفّع مشتق من السباحة وهي الارتفاع ، والتقدير : ما في السّموات وما في الأرض ، وحذفت «ما» على مذهب أبي العباس وهي نكرة لا موصولة لأنه لا يحذف الاسم الموصول ، وأنشد النحويون : [الرجز]

٤٦٣ ـ لو قلت ما في قومها لم تيثم

يفصلها في حسب وميسم(١)

فالتقدير : من يفضلها (٢). (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مبتدأ وخبره أي العزيز في انتقامه ممن عصاه الذي لا ينتصر منه من عاقبه من أعدائه الحكيم في تدبّره خلقه الذي لا يدخل في تدبيره خلل.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢)

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) رفع بالابتداء. (يُحْيِي وَيُمِيتُ) في موضع نصب على الحال ، ومرفوع لأنه فعل مستقبل. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مبتدأ وخبره.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣)

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) مثله. ولم ينطق من الأول بفعل ، وهو على أفعل ؛ لأن فاءه وعينه من موضع واحد فاستثقل ذلك والآخر ليس بجار على الفعل لأنه من تأخّر.

__________________

(١) الرجز لحكيم بن معيّة في خزانة الأدب ٥ / ٦٢ ، وله أو لحميد الأرقط في الدرر ٦ / ١٩ ، ولأبي الأسود الحماني في شرح المفصّل ٣ / ٥٩ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٧١ ، ولأبي الأسود الجمالي (وهذا تصحيف) في شرح التصريح ٢ / ١١٨ ، وبلا نسبة في الكتاب ٢ / ٣٦٤ ، والخصائص ٢ / ٣٧٠ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٠٠ ، وشرح عمدة الحافظ ٥٤٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٠.

(٢) انظر الكتاب ٢ / ٣٦٤ (يريد : ما في قومها أحد ، فحذفوا).

٢٣٢

(وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) قيل : معنى الظاهر الذي ظهرت صنعته وحكمته ، وقيل العالم بما ظهر وما بطن. ومن أحسن ما قيل فيه أنه من ظهر أي قوي وعلا ، فالمعنى الظاهر على كل شيء العالي فوقه فالأشياء دونه. الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه ، ومثله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) [ق : ١٦] ويدلّ على هذا أن بعده (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي لا يخفى عليه شيء.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٤)

يكون (الَّذِي) في موضع رفع على إضمار مبتدأ لأنه أول آية. قال : ويجوز أن يكون نعتا لما تقدم ويجوز أن يكون في موضع نصب على المدح أعني بهذا المدح الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش. (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) يقال : ولج يلج إذا دخل. والأصل يولج حذفت الواو لأنها بين ياء وكسرة. (وَهُوَ مَعَكُمْ) نصب على الظرف ، والعامل فيه المعنى أي وهو شاهد معكم حيث كنتم. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي بما تعملونه من حسن وسيّئ وطاعة ومعصية حتّى يجازيكم عليها.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٥)

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي سلطانهما فأمره وحكمه نافذ فيهما (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) أي إليه مصيركم ليجازيكم بأعمالكم.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٦)

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي نقصان الليل في النهار فتكون زيادة (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) يدخل نقصان النهار في الليل فتكون زيادة فيه ، كما قال عكرمة وإبراهيم هذا في القصر والزيادة ولم يحذف الواو من يولج وهي بين ياء وكسرة لأن الفعل رباعي لا يجوز أن يغير هذا التغيير (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما تخفونه في صدوركم من حسن وسيئ أو تهمّون به في أنفسكم. وفي الحديث «إنّ الدعاء يستجاب بعد قراءة هذه الآيات السّت» (١).

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (٧)

أي يخلفون من كان قبلهم ، وحضّهم على الإنفاق لأنهم يفنون كما فني الذين من

__________________

(١) انظر تفسير القرطبي ١٧ / ٢٣٥.

٢٣٣

قبلهم ويورثون. (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) فالذين مبتدأ أي الذين آمنوا منكم بالله ورسوله. (لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي ثواب عظيم.

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٩)

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) في موضع نصب على الحال ، والمعنى أيّ شيء لكم إن كنتم تاركين الإيمان؟ (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) قد أظهر البراهين والحجج. (لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) قال الفرّاء (١) : القرّاء جميعا على (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) قال : ولو قرئت (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) لكان صوابا. قال أبو جعفر : هذا كلامه نصا في كتابه وهو غلط ، وقد قرأ أبو عمرو (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) (٢) غير أن أبا عبيد قال : والقراءة عندنا هي الأولى (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) ؛ لأن الأمة عليها ولأن ذكر الله جلّ وعزّ قبل الآية وبعدها. قال أبو جعفر : أما قوله : لأن الأمة عليها ، فحجة بيّنة لأن الأمة الجماعة ، وأما قوله : لأن ذكر الله عزوجل اسمه قبل الآية وبعدها ، فلا يلزم لأنه قد عرف المعنى. وللعلماء في أخذ الميثاق قولان : أحدهما أنه أخذ الميثاق حين أخرجوا من ظهر أدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله عزوجل ربّهم لا إله لهم سواه ، وهذا مذهب العلماء من أصحاب الحديث منهم مجاهد ، والقول الآخر أنه مجاز لما كانت آيات الله جلّ وعزّ بيّنة والدلائل واضحة وحكمته ظاهرة ، يشهد بها من راها كان علمه بذلك بمنزلة أخذ الميثاق منه. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قيل : المعنى إن كنتم عازمين على الإيمان فهذا أوانه لما ظهر لكم من البراهين والدلائل ، ويدل على هذا أن بعده هو الذي ينزّل على عبده آيات بيّنات. (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، كما قال مجاهد من الضلالة إلى الهدى. (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي حين بيّن لكم هداكم.

(وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠)

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) «أن» في موضع نصب على المعنى وأي عذر لكم في

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٣٢.

(٢) انظر تيسير الداني ١٦٨ (قرأ أبو عمرو «أخذ» بضمّ الهمزة وكسر الخاء و «ميثاقكم» بالرفع ، والباقون بفتح الهمزة والخاء والنصب).

٢٣٤

أن لا تنفقوا في سبيل الله (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فحضّهم بهذا على الإنفاق ؛ لأنهم يموتون ويخلّفون ما بخلوا به ويورّثونه. (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) اختلف العلماء في معنى هذا الفتح فقال قتادة : الذين أنفقوا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل فتح مكة وقاتلوا ، أفضل من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة وقاتلوا ، وكذا قال زيد بن أسلم ، وقال الشّعبي : الذين أنفقوا قبل الحديبية وقاتلوا أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد فتح الحديبية وقاتلوا. قال أبو جعفر : وهذا القول أولى بالصواب ؛ لأن عطاء بن يسار روى عن أبي سعيد الخدري قال : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح الحديبية : «يأتون أقوام تحقرون أعمالكم مع أعمالهم» قلنا : يا رسول الله أمن قريش هم؟ قال : «لا هم أهل اليمن أرقّ أفئدة وألين قلوبا». قلنا : يا رسول الله أهم خير منا؟ قال «لا لو أنّ لأحدهم جبل ذهب ثم أنفقه ما بلغ مدّ أحدكم ولا نصيفه. هذا فضل ما بعيننا وبين الناس» (١) (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). حكى أبو حاتم وكلّ وعد الله الحسنى (٢) بالرفع. قال أبو جعفر : وقد أجاز سيبويه مثل هذا على إضمار الهاء ، وأنشد : [المتقارب]

٤٦٤ ـ فثوب نسيت وثوب أجرّ(٣)

وأبو العباس محمد بن يزيد لا يجيز هذا في منثور ولا منظوم إلّا أن يكون يجوز فيه غير ما قدّره سيبويه ، وهو أن يكون الفعل نعتا فيكون التقدير : فثمّ ثوب نسيت فعلى هذا لا يجوز في ثوب إلّا الرفع ، ولا يجيز زيد ضربت ؛ لأنه ليس فيه شيء من هذا فيكون كلّ بمعنى وأولئك كلّ وعد الله فيكون نعتا. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) مبتدأ وخبره أي من إنفاق وبخل حتّى يجازيكم عليه.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١١)

(مَنْ) في موضع رفع بالابتداء و (ذَا) خبره و (الَّذِي) نعت لذا وفيه قولان آخران: أحدهما أن يكون «ذا» زائدا مع الذي ، والقول الآخر أن يكون «ذا» زائدا مع

__________________

(١) انظر المعجم المفهرس لونسنك ١ / ٤٨٧.

(٢) انظر تيسير الداني ١٦٩.

(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ١٥٩ ، والكتاب ١ / ١٣٩ ، والأشباه والنظائر ٣ / ١١٠ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٧٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٦٦ ، والمقاصد النحوية ١ / ٥٤٥ ، وبلا نسبة في المحتسب ٢ / ١٢٤ ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٧٢ ، وصدره :

«فأقبلت زحفا على الرّكبتين»

٢٣٥

«من» ، وهذا قول الفرّاء (١) ، وزعم أنه رأى في بعض مصاحف عبد الله ، «منذا» بوصل النون مع الذال جعلا شيئا واحدا ، ولا يجيز البصريون أن تزاد «ذا» مع «من» ويجيزون ذلك مع «ما» ، لأن «ما» مبهمة فذا تجانسها ، وعلى هذا قرئ (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] بالنصب ، وزيادة «ذا» مع «الذي» أقرب ألا ترى أن «الذي» تصغّر كما تصغّر «ذا» فيقال : اللّذيّا ، يقال : ذيّا وقد عورض سيبويه في قوله : الذي بمنزلة العمي فقيل : كيف هذا؟ وإنما يقال في تصغير العمي : العميّ ، ويقال في تصغير الذي : اللذيّا ، ويقال : اللّذيان والعميان فيوخذ هذا كلّه مختلفا فكيف يكون الذي بمنزلة العمي؟ وهذا لا يلزم منه شيء ، وليس هذا موضع شرحه. «قرضا» منصوب على أنه اسم للمصدر كما يقال : أجابه إجابة ، ويجوز أن يكون مفعول به كما تقول : أقرضته مالا ، «حسنا» من نعت قرض. قيل : معنى الحسن هاهنا الحلال فإن الإقراض أن ينفق محتسبا لله عزوجل مبتغيا ما عنده (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) قال الفرّاء (٢) : جعله عطفا على يقرض. كما تقول : من يجيء فيكرمني ويحسن إليّ ، وقال أبو إسحاق : يجوز أن يكون مقطوعا من الأول مستأنفا ، ومن قرأ فيضعفه (٣) جعله جواب الاستفهام فنصبه بإضمار «أن» عند الخليل ، وسيبويه والجرمي ينصبه بالفاء. (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) قيل : الجنة.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٢)

نصبت يوما على الظرف أي لهم أجر في ذلك اليوم ، و «ترى» في موضع خفض بالإضافة «يسعى» في موضع نصب على الحال فأما قوله جلّ وعزّ (بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) ولم يذكر الشمائل فللعلماء فيه ثلاثة أقوال : قال الضحّاك : نورهم هداهم ، ومال إلى هذا القول محمد بن جرير قال : لأن المؤمنين نورهم حواليهم من كل جهة فلما خص الله جلّ وعزّ بين أيديهم وبأيمانهم علم أنه ليس بالضياء ، والباء بمعنى «في» وقال بعض نحويي البصريين هي بمعنى عن قال أبو جعفر : وقيل النور هاهنا نور كتبهم وإنما يعطون كتبهم بأيمانهم من بين أيديهم فلهذا وقع الخصوص. قال أبو جعفر : وأجلّ ما قيل في هذا ما قاله عبد الله بن مسعود رحمة الله عليه ، قال: يعطى المؤمنون أنوار على قدر أعمالهم ، فمنهم من يعطى نورا مثل الجبل ، وأقل ذلك أن يعطى نورا على إبهامه يضيء مرة ويطفأ مرة. (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي يقال لهم ، وحذف القول

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٢٣.

(٢) انظر معاني الفراء ٣ / ١٣٢.

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٢١٩ ، وتيسير الداني ٦٩.

٢٣٦

«بشراكم» في موضع رفع بالابتداء «جنات» خبره ، وأجاز الفرّاء : في «جنّات» النصب من جهتين ، إحداهما على القطع ويكون اليوم في موضع الخبر وإن كان ظرفا ، وأجاز رفع «اليوم» على أنه خبر «بشراكم» ، وأجاز أن يكون «بشراكم» في موضع نصب يعني يبشّرونهم بالبشرى ، وأن ينصب «جنات» «بالبشرى» قال أبو جعفر : ولا نعلم أحدا من النحويين ذكر هذا غيره وهو متعسّف لأن (جَنَّاتٌ) إذا نصبها على القطع ، وليست بمعنى الفعل بعد ذلك وإن نصبها بالبشرى ، فإن كان نصبها ببشراكم فهو خطأ بين ، لأنها داخلة في الصلة فيفرق بين الصلة والموصول باليوم ، وليس هو في الصلة ، وهذا لا يجوز عند أحد النحويين ، وإن نصبت «جنات» بفعل محذوف فهو شيء متعسّف ومع هذا فلم يقرأ به أحد ، (خالِدِينَ) نصب على الحال. (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). قال الفرّاء (١) : وفي قراءة عبد الله ذلك الفوز العظيم ليس فيها «هو». قال أبو جعفر : «ذلك» مبتدأ ، و «هو» زائدة للتوكيد. (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) خبر ذلك ، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ ثانيا والجملة خبر ذلك.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) (١٣)

نصبت يوما على الظرف أي وذلك الفوز العظيم في ذلك اليوم ، ويجوز أن يكون بدلا من اليوم الذي قبله ، (انْظُرُونا) من نظر ينظر بمعنى النظر. وهذه القراءة البيّنة. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة. وأنظرونا (٢) بفتح الهمزة ، وزعم أبو حاتم أن هذا خطأ ، قال : وإنما يأتينا هذا من شقّ الكوفة. قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يقول : إنما لحن حمزة في هذا لأن الذي لحنه قدّر «أنظرنا» بمعنى أخّرنا وأمهلنا ، فلم يجز ذلك هاهنا. وهو عندي يحتمل غير هذا ؛ لأنه يقال : أنظرني بمعنى تمهّل عليّ وترفّق ، فالمعنى على هذا يصحّ. (نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) مجزوم لأنه جواب. (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) أي قال المؤمنون للمنافقين ارجعوا إلى الموضع الذي كنا فيه فاطلبوا ثمّ النور. قال أبو جعفر : وشرح هذا ما روي عن ابن عباس قال : يغشى الناس ظلمة المؤمنين والمنافقين والكافرين ، فيبعث الله جلّ وعزّ نورا يهتدي به المؤمنون إلى الجنة فإذا تبعه المؤمنون تبعهم المنافقون ، فيضرب الله جلّ وعزّ بينهم بسور باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، فينادي المنافقون المؤمنين (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) فيقول لهم المؤمنون : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) إلى الموضع الذي كنا فيه وفيه الظلمة فجاء النور

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٣ / ١٣٣.

(٢) انظر تيسير الداني ١٦٩ (قرأ حمزة «انظرون» بقطع الهمزة وفتحها في الحالين وكسر الظاء والباقون بالألف الموصولة ويبتدئونها بالضمّ وضمّ الظاء).

٢٣٧

فالتمسوا منه النور. قال أبو جعفر : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) في موضع رفع على أنه اسم ما لم يسمّ فاعله والباء زائدة ، وعلى قول محمد بن يزيد هي متعلقة بالمصدر الذي دلّ عليه الفعل ، وضمّت الضاد في «ضرب» للفرق فإن قيل : فلم لا كسرت؟ فالجواب عند بعض النحويين أنها ضمّت كما ضمّ أول الاسم في التصغير وهذا الجواب يحتاج إلى جوابين : أحدهما الجواب لم ضمّ أول الاسم المصغّر؟ ولم ضمّ أول فعل ما لم يسمّ فاعله؟ والجواب أن أول فعل ما لم يسم فاعله ضمّ لأنه لمّا وجب الفرق بينه وبين الفعل الذي سمّي فاعله لم يجز أن يكسر إلا لعلّة أخرى ؛ لأن بينه ما سمّي فاعله قد يأتي مكسورا في قول بعضهم : أنت تعلم ونحن نستعين ، ويأتي مفتوحا ، وهو الباب فلم يبق إلّا الضم ، وليس هذا موضع جواب التصغير. (لَهُ بابٌ) قال كعب الأحبار : باب الرحمة الذي في بيت المقدس هو الذي ذكره الله جلّ وعزّ. قال قتادة : (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) الجنة وما فيها. (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) النار.

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (١٤)

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي نصلّي معكم ونصوم ونوارثكم ونناكحكم ، (قالُوا بَلى) أي قد كنتم معنا كذلك (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) قال مجاهد : بالنفاق. (وَتَرَبَّصْتُمْ) قال ابن زيد : بالإيمان (وَارْتَبْتُمْ) قال : شكّوا ، وقال غيره : ارتبتم فعلتم فعل المرتابين بوعد الله جلّ وعزّ ووعيده (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) أي خدعتكم أمانيّ أنفسكم فصددتم عن سبيل الله جلّ وعزّ (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) قيل : قضاؤه بمناياكم (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) قال مجاهد وقتادة : الغرور الشيطان. قال أبو جعفر : فعول في كلام العرب للتكثير ، وهو يتعدى عند البصريين. تقول: هذه غرور زيدا. وغفور الذنب ، وأنشد سيبويه في تعدّيه إلى مفعول : [الرمل]

٤٦٥ ـ ثمّ زادوا أنّهم في قومهم

غفر ذنبهم غير فجر(١)

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٥)

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) وقرأ يزيد بن القعقاع تؤخذ (٢) بالتاء ؛ لأن الفدية مؤنثة ،

__________________

(١) الشاهد لطرفة بن العبد في ديوانه ٥٥ ، والكتاب ١ / ١٦٨ ، وخزانة الأدب ٨ / ١٨٨ ، والدرر ٥ / ٢٧٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٦٨ ، وشرح التصريح ٢ / ٦٩ ، وشرح عمدة الحافظ ٦٨٢ ، وشرح المفصل ٦ / ٧٤ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٥٤٨ ، ونوادر أبي زيد ١٠.

(٢) انظر تيسير الداني ١٦٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢١.

٢٣٨

ومن ذكّرها فلأنها والفداء واحد وهي البدل والعوض (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا يؤخذ من الذين كفروا بدل ولا عوض من عذابهم (مَأْواكُمُ النَّارُ) أي مسكنكم النار مبتدأ وخبره ، وكذا (هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي وبئس المصير النار ثم حذف هذا.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (١٦)

وعن الحسن (أَلَمْ يَأْنِ) (١) يقال : أإن يئين وأني يأنى وحان يحين ، ونال ينال وأنال ينيل بمعنى واحد و «أن» في موضع رفع بيأن. (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) «ما» في موضع خفض أي ولما نزل ، هذه قراءة شيبة ونافع ، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكوفيون (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) (٢) وعن عبد الله بن مسعود أنه قرأ وما أنزل من الحقّ وأبو عبيد يختار التشديد ؛ لأن قبله ذكر الله جلّ وعزّ. قال أبو جعفر : والمعنى واحد ؛ لأن الحق لا ينزل حتّى ينزله الله عزوجل ، وليس يقع في هذا اختيار وله جاز أن يقال في مثل هذا اختيار لقيل : الاختيار نزل : لأن قبله (لِذِكْرِ اللهِ) ولم يقل لتذكير الله. (وَلا يَكُونُوا) (٣) (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) يكونوا في موضع نصب معطوف على «تخشع» أي وألا يكونوا ، ويجوز أن تكون في موضع جزم. والأول أولى ؛ لأنها واو عطف ، ولا يقطع ما بعدها ممّا قبلها إلّا بدليل (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) قال مجاهد الدّهر. (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي لم تلن ولم تقبل الوعظ. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) مبتدأ وخبره ولم يعمّوا بالفسق ؛ لأن منهم من قد آمن ، ومنهم من لم تبلغه الدعوة ، وهو مقيم على ما جاء به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٧)

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) قيل : فالذي فعل هذا هو الذي يهدي ويسدّد من أراد هدايته ومن ضلّ عن طريق الحقّ. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي بالحجج والبراهين لتكونوا على رجاء من أن تعقلوا ذلك ، هذا قول سيبويه. وغيره يقول : «لعلّ» بمعنى «كي» ولو كان كذلك لكان تعقلوا بغير نون.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (١٨)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٢٢.

(٢) انظر تيسير الداني ١٦٩ (قرأ نافع وحفص «وما نزل» مخفّفا والباقون مشدّدا).

(٣) انظر البحر المحيط ٨ / ٢٢٢ (بالياء قراءة الجمهور ، وبالتاء قراءة أبي حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر وعن شيبة ويعقوب وحمزة).

٢٣٩

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) الأصل المتصدقين ثم أدغمت التاء في الصاد. وفي قراءة أبيّ إنّ المتصدقين (١) وفي قراءة ابن كثير وعاصم (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ) (٢) أي المؤمنين من التصديق ، والأول من الصدقة (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) قيل. الجنة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١٩)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) مبتدأ. (أُولئِكَ) يكون مبتدأ ثانيا ، ويجوز أن يكون بدلا من الذين ، ولا يكون نعتا لأن المبهم لا يكون نعتا لما فيه الألف واللام لا يجوز مررت بالرجل هذا ، على النعت عند أحد علمته ، ولو قلت : مررت بزيد هذا على النعت لجاز ، وخير الابتداء (الصِّدِّيقُونَ) قال أبو إسحاق : صدّيق على التكثير أي كثير التصديق ، وقال غيره : هذا خطأ لأن فعيلا لا يكون إلا من الثلاثي مثل سكّيت من سكت ، وصدّيق للكثير الصّدق. ومن هذا قيل لأبي بكر رضي الله عنه : الصّدّيق ، حتّى كان يعرف بذلك في وقت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «إنّ الله جلّ وعزّ سمّى أبا بكر صدّيقا». (وَالشُّهَداءُ) على هذا معطوفون على الصديقين يدلّ على صحة ذلك ما رواه بن عجلان عن زيد بن أصمّ عن البرآء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مؤمنو أمتي شهداء» (٣) ثم تلا (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) الآية. قال أبو جعفر : فهذا القول أولى من جهة الحديث والعربية لأن الواو واو عطف فسبيل ما بعدها أن يكون داخلا فيما قبلها إلّا أن يمنع مانع من ذلك أن يكون حجّة قاطعة وقد قيل : إن التمام أولئك هم الصديقون وإن الشهداء ابتداء. وهذا يروى عن ابن عباس وهذا اختيار محمد بن جرير وزعم أنه أولى بالصواب ؛ لأن المعروف من معنى الشهداء أنه المقتول في سبيل الله جلّ وعزّ ثم استثنى فقال : إلّا أن يراد بالشهداء أنه يشهد لنفسه عند ربّه بالإيمان ، قال أبو جعفر : وإذا كان و «الشهداء» مبتدأ فخبره (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ويجوز أن يكون خبره. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) وهذا عطف جملة على جملة والأول على خلاف هذا يكون «والشهداء» معطوفا على الصّدّيقين ويكون (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) للجميع. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) مبتدأ. (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) مبتدأ وخبره في موضع خبر الأول.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ) (٢٠)

__________________

(١) و (٢) انظر تيسير الداني ١٦٩ ، ومختصر ابن خالويه ١٥٢ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٦٢٦.

(٣) انظر تفسير القرطبي ٢٧ / ٢٣١.

٢٤٠